فصل: باب خلافة المعتصم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **


الجزء الحادي عشر

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله

 ثم دخلت سنة سبع عشرة ومائتين

فمن الحوادث فيها ورود المأمون إلى مصر في المحرم فأتي بعبدوس الفهري فضرب عنقه وانصرف إلى الشام ‏.‏

وفيها‏:‏ قتل المأمون علي بن هشام وأخاه حسينًا بأدنة في جمادى الأولى ‏.‏

وكان السبب‏:‏ أن المأمون ولى علي بن هشام كور الجبال فرفع إليه قتله الرجال وأخذه الأموال فوجه إليه عجيفًا فأراد أن يقتل عجيفًا ويلحق ببايك فظفر به عجيف فقدم به على المأمون فقتله وأخاه وبعث برأس علي بن هشام إلى بغداد وخراسان فطيف به ثم رد إلى الشام والجزيرة فطيف به كورة كورة وقدم به دمشق في ذي الحجة ثم ذهب به إلى مصر ثم ألقي في وفي هذه السنة‏:‏ دخل المأمون أرض الروم فأناخ على لؤلؤة مائة يوم ثم رحل عنها وخلف عليها عجيفًا فاختدعه أهلها فأسروه فمكث أسيرًا في أيديهم ثمانية أيام ثم أخرجوه وصار توفيل إلى لؤلؤة فأحاط بعجيف فصرف المأمون الجنود إليه فارتحل توفيل قبل موافاتهم وخرج أهل لؤلؤة إلى عجيف بأمان ‏.‏

وفيها‏:‏ كتب توفيل إلى المأمون يسأله الصلح ‏.‏

وفيها‏:‏ وقع حريق عظيم بالبصرة ‏.‏

فروى محمد بن عمار قال‏:‏ كنت في هذا الحريق فإذا رجل قد جاء فقال‏:‏ أنا فلان بن فلان تعرفوني ولي في نهر كذا وكذا كذا وكذا جريبًا وفي نهر كذا وكذا كذا وكذا جريبًا وقد جعلت لمن يجيئني بابنتي عشرة أجربة من أي نهر شاء ‏.‏

قال‏:‏ فإذا رجل قد وثب فبل كساء ثم ألقاه عليه وغدا في النار فقال الرجل‏:‏ إنا لله أما ابنتي فقد ذهبت وأحرقت هذا الرجل إذ قيل‏:‏ هو ذاك هو ذاك وهو على الدرجة فإذا هو قد بل كساء في البيت وأدخل بنت الرجل جوفه ثم احتملها حتى دخل النار فقطعها وألقاها فعمد الرجل فألقى عليها ثوبه واحتملها وغشي على الرجل الذي كان قد جاء بها ‏.‏

قال‏:‏ فجاء الأب وقد أفاق الرجل فقال‏:‏ اختر من أي نهر شئت ‏.‏

فقال‏:‏ لا حاجة لي فيها قال‏:‏ فلم يزل به وهو يأبى إلى أن قال‏:‏ لو ذهبت للطمع لاحترقت واحترقت ابنتك ولم يقبل ذلك منه ‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي ‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

إبراهيم بن تيم أبو إسحاق مولى شرحبيل بن حسنة كان كاتبًا في ديوان الخراج ثم لي خراج مصر توفي في هذه السنة ‏.‏

إبراهيم بن الجراح بن صبيح مولى بني تميم ‏.‏

وهو من أهل مروروذ سكن الكوفة وولي قضاء مصر وعزل سنة إحدى عشرة ومائتين وروي عن يحيى بن عقبة بن العيزار أنه كان يقول بخلق القرآن ‏.‏

وتوفي بمصر في هذه السنة ‏.‏

الخليل بن أبي نافع المزني الموصلي نزل بغداد ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا أبو الفرج محمد بن إدريس الموصلي - في كتابه إلي - قال‏:‏ حدثنا أبو منصور المظفر بن محمد الطوسي حدثنا أبو زكريا بن يزيد بن محمد بن إياس الأزدي في الطبقة الرابعة من علماء أهل الموصل قال‏:‏ ومنهم الخليل بن أبي نافع المزني كان من العباد وكتب الحديث واختار الصمت والعزلة وكان قد اتخذ لوحًا يكتب فيه كل ما يتكلم به ويحصيه فيه آخر النهار فيجده بضع عشرة كلمة ‏.‏

وتوفي ببغداد في هذه السنة ‏.‏

داود بن مهران أبو سليمان الدباغ سمع عبد العزيز بن أبي رواد وسفيان بن عبد الله روى عنه عباس الدوري وقال يعقوب بن شيبة‏:‏ كان شيخًا صدوقًا ثقة ‏.‏

توفي في شوال هذه السنة ‏.‏

سريج بن النعمان بن مروان أبو الحسن اللؤلؤي خراساني الأصل بغدادي الدار سمع حماد بن سلمة وفليح بن سليمان وصالحًا المري وسفيان بن عيينة وروى عنه أحمد بن حنبل وأبو خيثمة والدوري وأبو زرعة وأبو حاتم وكان ثقة وكان منزله بعسكر المهدي

وتوفي في يوم الأضحى من هذه السنة ‏.‏

عمرو بن مسعدة بن سعيد بن صول أبو الفضل كان أحد كتاب المأمون وكان له منزلان ببغداد أحدهما بحضرة طاق الحراني والحراني هو‏:‏ توفي بأذنة في هذه السنة ورفع إلى المأمون أنه خلف ثمانين ألف ألف درهم فوقع‏:‏ ‏"‏ هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا فبارك الله لولده فيه ‏"‏ ‏.‏

ولعمرو بن مسعدة حكايات ظريفة‏:‏ أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز قال‏:‏ أنبأنا علي بن المحسن التنوخي عن أبيه‏:‏ أن عمرو بن مسعدة قال‏:‏ كنت مع المأمون عند قدومه من بلاد الروم حتى إذا نزل الرقة قال‏:‏ يا عمرو أو ما ترى الرخجي قد احتوى على الأهوار وجمع الأموال وطمع فيها وكتبي تصل إليه في حملها وهو يتعلل ويتربص بي الدوائر‏!‏ فقلت‏:‏ أنا أكفي أمير المؤمنين هذا وأنقذ من يضطره إلى حمل ما عليه ‏.‏

فقال‏:‏ ما يقنعني هذا ‏.‏

قلت‏:‏ فيأمر أمير المؤمنين بأمره ‏.‏

قال‏:‏ تخرج إليه بنفسك حتى تصفده بالحديد وتحمله إلى بغداد وتقبض على جميع ما في يديه من أموالنا وتنظر في العمل وترتب فيه عمالًا ‏.‏

فقلت‏:‏ السمع والطاعة ‏.‏

فلما كان من الغد دخلت إليه فاستعجلني فانحدرت في زلال أريد البصرة واستكثرت من الثلج لشدة الحر فلما صرت بين جرجرايا وجيل سمعت صائحًا من الشاطئ يصيح‏:‏ يا ملاح فرفعت سجف الزلال فإذا شيخ كبير السن حاسر حافي القدمين خلق القميص ‏.‏

فقلت للغلام‏:‏ أجبه فأجابه فقال‏:‏ يا غلام أنا شيخ كبير السن على هذه الصورة التي ترى وقد أحرقتني الشمس وكادت تتلفني وأريد جيل فاحملوني معكم فإن الله يأجركم ‏.‏

فشتمه الملاح وانتهره فأدركتني عليه رقة فقلت للغلام‏:‏ خذوه معنا فحملناه فتقدمت بدفع قميص ومنديل إليه فغسل وجهه واستراح وحضر وقت الغداء

فقلت للغلام‏:‏ هاته يأكل معنا ‏.‏

فجاء فأكل معنا أكل أديب إلا أن الجوع قد بين عليه فلما أكلت قلت‏:‏ يا شيخ أي شيء صناعتك قال‏:‏ حائك فتناومت عليه ومددت رجلي ‏.‏

فقال‏:‏ وأنت أعزك الله أي شيء صناعتك فأكبرت ذلك وقلت‏:‏ أنا جنيت على نفسي أتراه لا يرى زلالي وغلماني ونعمتي وأن مثلي لا يقال له هذا ثم قلت‏:‏ ليس إلا الزهد بهذا فقلت‏:‏ كاتب ‏.‏

فقال لي‏:‏ أصلحك الله إن الكتاب خمسة فأيهم أنت فسمعت كلمة أكبرتها وكنت متكئًا فجلست ثم قلت‏:‏ فصل الخمسة ‏.‏

قال‏:‏ نعم كاتب خراج‏:‏ يحتاج أن يكون عالمًا بالشروط والطسوق والحساب والمساحة والبثوق والفتوق والرتوق

وكاتب أحكام‏:‏ يحتاج أن يكون عالمًا بالحلال والحرام والاختلاف والأصول والفروع ‏.‏

وكاتب معونة‏:‏ يحتاج أن يكون عالمًا بالقصاص والحدود والجراحات ‏.‏

وكاتب جيش‏:‏ يحتاج أن يكون عالمًا بحلي الرجال وسمات الدواب ومداراة الأولياء وشيء من العلم بالنسب والحساب ‏.‏

وكاتب رسائل‏:‏ يحتاج أن يكون عالمًا بالصدور والفصول والإطالة والإيجاز وحسن الخط والبلاغة ‏.‏

قلت له‏:‏ فإني كاتب رسائل‏:‏ فقال‏:‏ أصلحك الله لو أن رجلًا من إخوانك تزوجت أمه وأردت أن تكاتبه مهنئًا له كيف تكاتبه ففكرت في الحال فلم يخطر ببالي شيء فقلت‏:‏ اعفني ‏.‏

فقال‏:‏ قد فعلت ‏.‏

فقلت‏:‏ ما أرى للتهنئة وجهًا قال‏:‏ فتكتب إليه تعزية ‏.‏ففكرت فلم يخطر ببالي أيضًا شيء فقلت‏:‏ اعفني ‏.‏

قال‏:‏ قد فعلت ولكن لست بكاتب رسائل ‏.‏

قلت‏:‏ فأنا كاتب خراج ‏.‏

قال‏:‏ لو أن أمير المؤمنين ولاك ناحية وأمرك فيها بالعدل واستيفاء حق السلطان فتظلم بعضهم من مساحتك وأحضرتهم للنظر بينهم وبين رعيتك فحلف المساح بالله لقد أنصفوا وحلفت الرعية بالله لقد ظلموا فقالت الرعية‏:‏ قف معنا على مسحه فخرجت لتقف فوقفوك على قراح كذا وكذا - لشيء وصفه - كيف تكتب قلت‏:‏ لا أدري قال‏:‏ فلست بكاتب خراج فما زال يذكر في حق كل كاتب حاله فلا أعلمها إلى أن قلت‏:‏ فاشرح أنت فشرح الكل فقلت‏:‏ يا شيخ أليس زعمت أنك حائك ‏.‏

فقال‏:‏ أنا حائك كلام ولست ما مر بي شر ولا نعيم إلا ولي فيهما نصيب قد ذقت حلوًا وذقت مرًا كذاك عيسى الفتى ضروب نوائب الدهر أدبتني وإنما يوعظ الأديب فقلت‏:‏ فما الذي أرى بك من سوء الحال فقال‏:‏ أنا رجل دامت عطلتي فخرجت أطلب البصرة فقطع علي الطريق فتركت كما ترى فمشيت على وجهي فلما رأيت الزلال استغثت بك ‏.‏

قلت‏:‏ فإني قد خرجت إلى تصرف جليل أحتاج فيه إلى جماعة مثلك وقد أمرت لك عاجلًا بخلعة حسنة وخمسة آلاف درهم تصلح بها من أمرك وتنفذ منها إلى عيالك وتصير معي إلى عملي فأوليك أجله ‏.‏

قال‏:‏ أحسن الله جزاك إذًا تجدني بحيث ما يسرك فانحدر معي فجعلته المناظر للرخجي والمحاسب له فقام بذلك أحسن قيام فحسنت حاله معي وعادت نعمته ‏.‏

أنبأنا أبو بكر بن عبد الباقي عن أبي القاسم التنوخي عن أبيه عن أشياخ له‏:‏ أن عمرو بن مسعدة كان مصعدًا من واسط إلى بغداد في حر شديد وهو في زلال فناداه رجل‏:‏ يا صاحب الزلال بنعمة الله عليك ألا نظرت إلى فكشفت سجف الزلال فإذا شيخ ضعيف حاسر فقال‏:‏ قد ترى ما أنا فيه ولست أجد من يحملني فابتغ الأجر في وتقدم إلى ملاحيك فقال عمرو بن مسعدة‏:‏ خذوه فأخذوه وقد كاد يموت من الشمس والمشي فقال له‏:‏ يا شيخ ما قضيتك وما قصتك قال‏:‏ قصة طويلة وبكى قال‏:‏ فسكنته ثم قلت‏:‏ حدثني ‏.‏

فقال‏:‏ أنا رجل كانت لله عز وجل علي نعمة وكنت صيرفيًا فابتعت جارية بخمسمائة دينار فشغفت بها وكنت لا أقدر أفارقها ساعة فإذا خرجت إلى الدكان أخذني الهيمان حتى أعود إليها فدام ذلك علي حتى تعطل كسبي وأنفقت من رأس المال حتى لم يبق منه قليل ولا كثير وحملت الجارية فأخذها الطلق فقالت‏:‏ يا هذا أموت فاحتل علي بما تبتاع به عسلًا ودقيقًا وسرجًا وإلا مت ‏.‏

فبكيت وجزعت وخرجت على وجهي وجئت لأغرق نفسي في دجلة فخفت العقاب فخرجت على وجهي إلى النهروان وما زلت أمشي من قرية إلى قرية حتى بلغت خراسان فصادفت من عرفني وتصرفت في صناعتي ورزقني الله مالًا عظيمًا وكتبت ستة وستين كتابًا لأعرف خبر منزلي فلم يعد لي جواب فلم أشك أن الجارية ماتت وتراخت السنون حتى حصل معي ما قيمته عشرون ألف دينار فقلت‏:‏ قد صارت لي نعمة فلو رجعت إلى وطني فابتعت بالمال كله متاعًا من خراسان وأقبلت أريد العراق فخرج على القافلة اللصوص فأخذوا ما فيها ونجوت بثيابي وعدت فقيرًا كما خرجت من بغداد فدخلت الأهواز متحيرًا فكسفت خبري لبعض أهلها فأعطاني ما كملت به إلى واسط وفقدت نفقتي فمشيت إلى هذا الموضع وقد كدت أتلف فاستغثت بك ولي مذ فارقت بغداد ثمان وعشرون سنة ‏.‏

قال‏:‏ فعجبت من محبته ورققت له وقلت‏:‏ إذا صرنا إلى بغداد فصر إلي فإني أتقدم بتصريفك فيما يصلح لمثلك فدعى لي ودخلنا إلى بغداد ومضت مدة فنسيته فيها فبينا أنا يومًا قد ركبت أريد دار المأمون إذ أنا بالشيخ على بابي راكبًا بغلًا فارهًا بمركب ثقيل وغلام أسود بين يديه وثياب رفيعة فرحبت به فقلت‏:‏ ما الخبر قال‏:‏ طويل ‏.‏

قلت‏:‏ عد إلي فلما كان من الغد جاءني ‏.‏

فقلت‏:‏ عرفني خبرك فقد سررت بحسن حالك ‏.‏

فقال‏:‏ إني لما صعدت من زلالك قصدت داري فوجدت حائطها الذي على الطريق كما خلفته غير أن باب الدار مجلو نظيف وعليه بواب وبغال مع شاكرية فقلت‏:‏ إنا لله ماتت جاريتي وتملك الدار بعض الجيران فباعها على رجل من أصحاب السلطان ثم تقدمت إلى بقال كنت أعرفه في المحلة فإذا في دكانه غلام حدث فقلت‏:‏ من تكون من فلان البقال قال‏:‏ ابنه ‏.‏

قلت‏:‏ ومتى مات أبوك قال‏:‏ مذ عشرين سنة ‏.‏

قلت‏:‏ لمن هذه الدار قال‏:‏ لابن داية أمير المؤمنين وهو الآن جهبذه وصاحب بيت ماله ‏.‏

قلت‏:‏ بمن يعرف قال‏:‏ بابن فلان الصيرفي فأسماني قلت‏:‏ هذه الدار من باعها عليه قال‏:‏ هذه دار أبيه ‏.‏

قلت‏:‏ فهل يعيش أبوه قال‏:‏ لا ‏.‏

قلت‏:‏ أفتعرف من حديثهم شيئًا قال‏:‏ نعم حدثني أبي أن هذا الرجل كان صيرفيًا جليلًا فافتقر وأن أم هذا الصبي ضربها الطلق فخرج أبوه يطلب لها شيئًا ففقد وهلك قال لي أبي‏:‏ فجاءني رسول أم هذا تستغيث بي فقمت لها بحوائج الولادة ودفعت إليها عشرة دراهم فأنفقتها حتى قيل‏:‏ قد ولد لأمير المؤمنين الرشيد مولود ذكر وقد عرض عليه جميع الدايات فلم يقبل لثدي أحد منهن وقد طلب له الحرائر فجاءوا بغير واحدة فما أخذ بثدي واحدة منهم وهو في طلب مرضع فأرشدت الذي طلب الداية إلى أم هذا فحملت إلى دار أم أمير المؤمنين الرشيد فحين وضع فم الصبي على ثديها قبله فأرضعته وكان الصبي المأمون وصارت عندهم في حالة جليلة ووصل إليها منهم خير عظيم ثم خرج المأمون إلى خراسان فخرجت هذه المرأة وابنها هذا معه ولم نعرف من أخبارهم شيئًا إلا من قريب لما عاد المأمون وعادت حاشيته رأينا هذا قد جاء رجلًا وأنا لم أكن رأيت هذا قط قبل هذا فقيل‏:‏ هذا ابن فلان الصيرفي وابن داية أمير المؤمنين فبنى هذه الدار وسواها قلت‏:‏ أفعندك علم من أمه أحية هي أم ميتة قال‏:‏ حية تمضي إلى دار الخليفة أيامًا وتكون عند ابنها أيامًا وهي الآن ها هنا ‏.‏

فحمدت الله عز وجل على هذه الحالة وجئت فدخلت الدار مع الناس فرأيت الصحن في نهاية العمارة والحسن وفيه مجلس كبير مفروش بفرش فاخر وفي صدره شاب وبين يديه كتاب وجهابذة وحساب وفي صفاف الدار جهابذة بين أيديهم الأموال والتخوت والشواهين يقضون ويقبضون وبصرت بالفتى فرأيت شبهي فيه فعلم أنه ابني فجلست في غمار الناس إلى أن لم يبق في المجلس غيري فأقبل علي فقال‏:‏ يا شيخ هل من حاجة تقولها قلت‏:‏ نعم ولكنها أمر لا يجوز أن يسمعه غيرك ‏.‏

فأومأ إلى غلمان كانوا قيامًا حوله فانصرفوا وقال‏:‏ قل قلت‏:‏ أنا أبوك ‏.‏

فلما سمع ذلك تغير وجهه ولم يكلمني بحرف ووثب مسرعًا وتركني في مكاني فلم أشعر إلا بخادم قد جاءني فقال لي‏:‏ قم يا سيدي فقمت أمشي معه إلى أن بلغنا إلى ستارة منصوبة في دار لطيفة وكرسي بين يديها والفتى جالس خلف الستارة على كرسي آخر فقال‏:‏ اجلس أيها الشيخ ‏.‏

فجلست على الكرسي ودخل الخادم فإذا بحركة خلف الستارة فقلت‏:‏ أظنك تريد تختبر صدق قولي من جهة فلانة ‏.‏

وذكرت اسم جاريتي أمه فإذا بالستارة قد هتكت والجارية قد خرجت إلي فجعلت تقبلني وتبكي وتقول‏:‏ مولاي والله ‏.‏

قال‏:‏ فرأيت الصبي قد تسور وبهت وتحير فقلت للجارية‏:‏ ويحك ما خبرك قالت‏:‏ دع خبري ففي مشاهدتك لما تفضل الله به كفاية إلى أن أخبرك وقل لي ما كان من خبرك أنت قال‏:‏ فقصصت عليها خبري من يوم خروجي إلى يوم ذلك وقصة ما كان قصه علي ابن البقال وأشرح كل ذلك بحضرة من الفتى ومسمع منه فلما استوفى الكلام خرج وتركني في مكاني فإذا بالخادم فقال‏:‏ تعال يا مولاي يسألك ولدك أن تخرج إليه ‏.‏

قال‏:‏ فخرجت فلما رآني من بعد قام قائمًا على رجليه وقال‏:‏ المعذرة إلى الله وإليك يا أبت من تقصيري في حقك فإنه فاجأني ما لم أكن أظن مثله يكون والآن فهذه النعمة لك وأنا ولدك وأمير المؤمنين يجهد بي منذ دهر طويل أن أدع الجهبذة وأتوفر على خدمته فلم أفعل طلبًا للتمسك بصناعتي والآن فأنا أسأله أن يرد إليه عملي وأخدمه أنا في غيره قم عاجلًا فأصلح أمرك ‏.‏

فأدخلت إلى الحمام وتنظفت وجاءني بخلعة فلبستها وخرجت إلى حجرة والديه فجلست فيها ثم أنه أدخلني على أمير المؤمنين وحدثه حديثي فأمر له بخلعة فهي هذه ورد إلي العمل الذي كان إلى ابني وأجرى لي من الرزق كذا وكذا وقلدني أعمالًا هي من أجل عمله فجئتك أشكرك على ما عاملتني به من الجميل وأعرفك تجدد النعمة ‏.‏

قال عمرو‏:‏ فلما أسمي لي الفتى عرفته وعلمت أنه ابن داية أمير المؤمنين ‏.‏

 ثم دخلت ثمان عشرة ومائتين

فمن الحوادث فيها‏:‏ أن المأمون أمر بتفريغ الرافقة لينزلها حشمه فضج من ذلك أهلها فأعفاهم والرافقة‏:‏ رقة الشام ‏.‏

وفيها‏:‏ وجه المأمون ابنه العباس إلى أرض الروم في أول يوم من جمادى وأمره بنزول الطوانة وبنائها وكان قد وجه الفعلة فابتدأ في بنائها وفرضها ميلًا في ميل وجعل لها أربعة أبواب وبنى على كل باب حصنًا ‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ كتب المأمون إلى إسحق بن إبراهيم في امتحان القضاة وأمر بإشخاص جماعة منهم إليه بالرقة وكان هذا أول كتاب كتب في ذلك ونسخة كتابه إليه‏:‏ أما بعد فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم عليه ومواريث النبوة التي ورثهم وأثر العلم الذي استودعهم والعمل بالحق في رعيتهم والتشمير لطاعة الله فيهم والله يسأل أمير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته والإقساط فيما ولاه الله من رعيته برحمته ومنته وقد عرف أمير المؤمنين أن السواد الأعظم من حشو الرعية وسفلة العامة ممن لا نظر له ولا روية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته ولا استضاء بنور العلم وبرهانه في جميع الأقطار والآفاق أهل جهالة بالله وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده والإيمان به ونكوب عن واضحات أعلامه وواجب سبيله وقصور أن يقدروا الله حق قدره ويعرفونه كنه معرفته ويفرقوا بينه وبين خلقه لضعف آرائهم ونقص عقولهم وجفائهم عن التفكير والتذكير وذلك أنهم ساووا بين الله عز وجل وبين ما أنزل من القرآن فاطبقوا مجتمعين واتفقوا غير متعاجمين على أنه قديم أول لم يخلقه الله ويحدثه ويخترعه وقد قال تعالى في محكم كتابه‏:‏ الذي جعله لما في الصدور شفاء وللمؤمنين رحمة وهدى‏:‏ ‏{‏إنا جعلناه قرآنًا عربيًا‏}‏ فكل ما جعله الله فقد خلقه ‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور‏}‏‏.‏

وقال عز وجل‏:‏ ‏{‏كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق‏}‏ فأخبر أنه قصص لأمور تلا به متقدمها ‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير‏}‏ وكل محكم مفصل فله محكم ومفصل والله محكم كتابه ومفصله فهو خالقه ومبتدعه ‏.‏

ثم هم الذين جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فدعوا إلى قولهم ونسبوا أنفسهم إلى السنة في كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته ومبطل قولهم ومكذب دعواهم ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة وأن من سواهم أهل الباطل والكفر والفرقة فاستطالوا بذلك وغروا الجهال حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب والتخشع لغير الله والتعسف لغير الدين إلى موفقتهم عليه ومواطأتهم على آرائهم تزينًا بذلك عندهم وتصنعًا للرياسة والعدالة فيهم فتركوا الحق إلى الباطل واتخذوا دين الله وليجة إلى ضلالتهم ‏.‏

وقد أخذ الله عليهم في الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق أولئك الذين أصمهم الله وأعمى أبصارهم ‏{‏أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها‏}‏ ‏.‏

فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة ورؤوس الضلالة المنقوصون من التوحيد حظًا والمبخوسون من الإيمان نصيبًا وأوعية الجهالة وأعلام الكذب ولسان إبليس الناطق في أوليائه ‏.‏

فاجمع من بحضرتك من القضاة واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك وابدأ بامتحانهم فيما يقولون واكشفهم عما يعتقدون في خلق الله وإحداثه وأعلمهم أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله ولا واثق فيما قلده الله واستحفظه من أمور رعيته بمن لا يوثق بدينه وخلوص توحيده ويقينه فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه وكانوا على سبيل الهدى فمرهم بمساءلة من يحضرهم من الشهود عن علمهم في القرآن وترك إثبات شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث والامتناع من توقيعها عنده واكتب لأمير المؤمنين بما يأتيك من قضاة عملك في مسألتهم والأمر لهم بمثل ذلك ثم تفقد أحوالهم حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين وكتب في شهر ربيع الأول سنة ثمان عشرة ومائتين وكتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في إشخاص سبعة نفر منهم‏:‏ محمد بن سعد كاتب الواقدي وأبو مسلم مستملي يزيد بن هارون ويحيى بن معين وزهير بن حرب أبو خيثمة وإسماعيل بن داود وإسماعيل بن مسعود وأحمد الدورقي فأشخصوا إليه فامتحنهم وسألهم جميعًا عن خلق القرآن فأجابوا جميعًا أن القرآن مخلوق فأشخصهم إلى مدينة السلام وأحضرهم إسحاق بن إبراهيم داره فشهر أمرهم وقولهم بحضرة الفقهاء والمشايخ من أهل الحديث وأقروا بمثل ما أجابوا به المأمون فخلى سبيلهم وذلك بأمر المأمون ‏.‏

ثم كتب المأمون بعد ذلك لإسحاق بن إبراهيم‏:‏ أما بعد فإن حق الله على خلفائه في أرضه وأمنائه على عباده الذين ارتضاهم لإقامة دينه وحملهم رعاية خلقه وإمضاء حكمه وسننه الائتمام بعدله في بريته أن يجهدوا لله أنفسهم وينصحوا له فيما استحفظهم وقلدهم ويدلوا عليه - تبارك وتعالى - بفضل العلم الذي أودعهم والمعرفة التي جعلها فيهم ويهدوا إليه من زاغ عنه ويردوا من أدبر عن أمره وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله وحده وحسبه الله وكفى ومما تبينه أمير المؤمنين برويته وطالعه بفكره فتبين عظيم خطره وجليل ما يرجع في الدين من ضرره ما ينال المسلمين من القول في القرآن فقد تزين في عقول أقوام أنه ليس بمخلوق فضاهوا قول النصارى في عيسى إنه ليس بمخلوق والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏إنا جعلناه قرآنًا عربيًا‏}‏ وتأويل ذلك‏:‏ إنا خلقناه كما قال‏:‏ ‏{‏وجعل منها زوجها‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وجعلنا الليل لباسًا وجعلنا النهار معاشًا‏}‏ ‏{‏وجعلنا من الماء كل شيء حي‏}‏ ‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏في لوح محفوظ‏}‏ فدل على إحاطة اللوح بالقرآن ولا يحاط إلا بمخلوق ‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث‏}‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه‏}‏ فجعل له أولًا وآخرًا فدل على أنه محدود مخلوق ‏.‏

وقد عظم هؤلاء الجهلة بقولهم في القرآن الثلم في دينهم وسهلوا السبيل لعدو الإسلام واعترفوا بالتبديل والإلحاد على أنفسهم حتى وصفوا خلق الله وأفعاله بالصفة التي هي لله عز وجل وحده وشبهوه به والاشتباه أولى بخلقه وليس يرى أمير المؤمنين لمن قال بهذه المقالة حظًا في الدين ولا نصيبًا من الإيمان واليقين ولا يرى أن يحل أحدًا منهم محل الثقة في أمانة ولا عدالة ولا شهادة ولا تولية لشيء من أمر الرعية وإن ظهر قصد بعضهم وعرف بالسداد مسدد فيهم فإن الفروع مردودة إلى أصولها ومحمولة في الحمد والذم عليها ومن كان جاهلًا بأمر دينه الذي فاقرأ على جعفر بن عيسى وعبد الرحمن بن إسحاق القاضي كتاب أمير المؤمنين إليك وأنصصهما عن علمهما في القرآن وأعلمهما أن أمير المؤمنين لا يستعين على شيء من أمور المسلمين إلا بمن وثق بإخلاصه وتوحيده وأنه لا توحيد لمن لا يقر بأن القرآن مخلوق فإن قالا بقول أمير المؤمنين في ذلك فتقدم إليهما في امتحان من يحضر مجالسهما بالشهادات على الحقوق ونصهم عن قولهم في القرآن فمن لم يقل منهم إنه مخلوق أبطلا شهادته ولم يقطعا حكمًا بقوله وإن ثبت عفافه في أمره ‏.‏

وافعل ذلك بمن في سائر عملك من القضاة وأشرف عليهم إشرافًا يمنع المرتاب من إغفال دينه واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون منك في ذلك إن شاء الله ‏.‏

فأحضر إسحاق بن إبراهيم جماعة من الفقهاء والحكماء والمحدثين وأحضر أبا حسان الزيادي وبشر بن الوليد الكندي وعلي بن أبي مقاتل والفضل بن غانم والذيال بن الهيثم وسجادة والقواريري والإمام أحمد بن حنبل وقتيبة وسعدويه الواسطي وعلي بن الجعد وإسحاق بن أبي إسرائيل وابن علية ويحيى بن عبد الرحمن العمري وأبا نصر التمار وأبا معمر القطيعي ومحمد بن حاتم بن ميمون ومحمد بن نوح في آخرين فأدخلوا جميعًا على إسحاق فقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين مرتين حتى فهموه ثم قال لبشر بن الوليد‏:‏ ما تقول في القرآن فقال‏:‏ أقول القرآن كلام الله ‏.‏

فقال‏:‏ لم أسألك عن هذا أمخلوق هو قال‏:‏ الله خالق كل شيء ‏.‏

قال‏:‏ القرآن شيء قال‏:‏ هو شيء ‏.‏

قال‏:‏ فمخلوق قال‏:‏ ليس بخالق ‏.‏

قال‏:‏ ما أسألك عن هذا أمخلوق هو قال‏:‏ ما أحسن غير ما قلت لك ‏.‏

فأخذ إسحاق رقعة كانت بين يديه فقرأها عليه‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه فقال‏:‏ نعم ‏.‏

فقال للكاتب‏:‏ اكتب ما قال ‏.‏

ثم قال لعلي بن أبي مقاتل‏:‏ ما تقول يا علي فقال‏:‏ قد أسمعت كلامي لأمير المؤمنين في هذا غير مرة فامتحنه بالرقعة فأقر بما فيها فقال له‏:‏ القرآن مخلوق فقال‏:‏ القرآن كلام الله ‏.‏

قال‏:‏ لم أسألك عن هذا ‏.‏

قال‏:‏ هو كلام الله وإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعناه وأطعنا ‏.‏

فقال للكاتب‏:‏ اكتب مقالته ‏.‏

ثم قال للذيال نحوًا من مقالته لعلي بن أبي مقاتل فقال له مثل ذلك ‏.‏

ثم قال لأبي حسان الزيادي‏:‏ ما عندك وقرأ عليه الرقعة فأقر بما فيها فقال له‏:‏ القرآن مخلوق فقال له‏:‏ القرآن كلام الله والله خالق كل شيء وما دون الله مخلوق وإن أمير المؤمنين إمامنا وقد سمع ما لم نسمع وإن أمرنا ائتمرنا وإن دعانا أجبنا

فقال له‏:‏ القرآن مخلوق هو فأعاد أبو حسان مقالته وقال‏:‏ مرني أئتمر ‏.‏

فقال‏:‏ ما أمرني أن آمركم وإنما أمرني أن أمتحنكم ‏.‏

ثم دعا أحمد بن حنبل فقال له‏:‏ ما تقول في القرآن قال‏:‏ القرآن كلام الله ‏.‏

قال‏:‏ مخلوق هو قال‏:‏ هو كلام الله لا أزيد ‏.‏

فامتحنه بما في الرقعة فلما أتى على ‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏ قال أحمد‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏}‏‏.‏

ثم امتحن الباقين وكتب مقالتهم وبعث بها إلى المأمون فمكث القوم تسعة أيام ثم ورد كتاب المأمون في جواب الباقين وكتب مقالاتهم في جواب ما كتبه إسحاق وكان في الكتاب‏:‏ أما بعد فقد بلغ أمير المؤمنين جواب كتابه الذي كان كتب إليك فيما ذهب إليه متصنعة أهل القبلة وملتمسو الرئاسة فيما ليسوا له بأهل من القول في القرآن ومسألتك إياهم عن اعتقادهم وأمرك من لم يقل منهم إنه مخلوق بالإمساك عن التحديث والفتوى وبث الكتاب إلى القضاة في نواحي عملك بالقدوم عليك لتمتحنهم‏:‏ فأما بشر بن الوليد فأنصصه عن قوله في القرآن فإن تاب منها فأمسك عنه وإن دفع عن أن يكون القرآن مخلوقًا فاضرب عنقه وابعث برأسه إلى أمير المؤمنين ‏.‏

وأما علي بن أبي مقاتل فقل له‏:‏ ألست المكلم لأمير المؤمنين بما كلمته به من قولك له‏:‏ أنت تحلل وتحرم ‏.‏

وأما الذيال فأعلمه أنه كان في الطعام الذي كان يسرقه بالأنبار ما يشغله عن غيره

وأما أحمد بن زيد وقوله إنه لا يحسن الجواب في القرآن فسيحسنه إذا أخذه التأديب فإن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك ‏.‏

وأما أحمد بن حنبل‏:‏ فأعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف مقالته واستدل على آفته ‏.‏

وأما الفضل بن غانم فأعلمه أنه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان فيه بمصر وما اكتسب من الأموال ‏.‏

وأما الزيادي فأعلمه أنه كان منتحلًا ولا أول دعي في الإسلام خولف فيه حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان جديرًا أن يسلك مسلكه ‏.‏

وأما أبو نصر التمار فإن أمير المؤمنين شبه خساسة عقله بخساسة متجره ‏.‏

وجعل يذكر لكل واحد منهم عيبًا وقال‏:‏ من لم يرجع عن شركه ممن سميت لأمير المؤمنين ولم يقل القرآن مخلوق فاحملهم جميعًا موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين لينصهم أمير المؤمنين فإن لم يرجعوا احملهم على السيف ‏.‏

فأجاب القوم كلهم إلا أربعة‏:‏ أحمد بن حنبل وسجادة والقواريري ومحمد بن نوح فأمر بهم إسحاق فشدوا في الحديد فلما كان من الغد دعاهم فأعاد عليهم المحنة فأجابه سجادة فأمر بإطلاقه وأصر الآخرون فلما كان بعد غد دعاهم فأجاب القواريري فأطلقه وأمر أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح فشدا جميعًا في الحديد ووجها إلى طرسوس وكتب معهما كتابًا بإشخاصهما فلما صارا إلى الرقة تلقتهم وفاة المأمون فردوا إلى إسحاق بن إبراهيم بمدينة السلام فأمرهم إسحاق بلزوم منازلهم ثم رخص لهم بعد ذلك في الخروج ‏.‏

وكان المأمون قد أمر ابنه العباس وإسحاق بن طاهر أنه إن حدث به حدث الموت في مرضه فالخليفة من بعده أبو إسحاق بن الرشيد فكتب بذلك فكتب أبو إسحاق في عشية إصابة المأمون إلى العمال‏:‏ من أبي إسحاق أخي أمير المؤمنين والخليفة بعد أمير المؤمنين محمد ‏.‏

وصلى يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من رجب إسحاق بن يحيى بن معاذ في مسجد دمشق فقال في خطبته بعد دعائه لأمير المؤمنين‏:‏ وأصلح الأمير أخا أمير المؤمنين والخليفة من بعده أبا إسحاق الرشيد ‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ توفي المأمون وبويع للمعتصم ‏.‏

 باب خلافة المعتصم

واسمه محمد بن هارون الرشيد ويكنى أبا إسحاق وأمه أم ولد من مولودات الكوفة تسمى ماردة لم تدرك خلافته وكانت أحظى النساء عند الرشيد ‏.‏

وكان أبيض أصهب اللحية أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا ابن رزق أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق أخبرنا أحمد بن البراء قال‏:‏ المعتصم بالله أبو إسحاق محمد بن الرشيد ولد بالخلد في سنة ثمانين ومائة في الشهر الثامن وهو ثامن الخلفاء والثامن من ولد العباس وفتح ثمانية فتوح وولد له ثمانية بنين وثماني بنات ومات بالخاقاني من سر من رأى وكان عمره ثمانيًا وأربعين سنة وخلافته ثماني سنين وثمانية أشهر ويومين ‏.‏

وقال أبو بكر الصولي‏:‏ وثمانية أيام ‏.‏

وخلف من العين ثمانية آلاف ألف دينار ومثلها ورقًا وتوفي لثمان بقين من ربيع الأول وفتوحه المشهورة ثمانية ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرني عبد الله بن أبي الفتح أخبرنا أحمد بن إبراهيم أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة قال‏:‏ وكان المعتصم ثامن الخلفاء من بني العباس وثامن أمراء المؤمنين من بني عبد المطلب وملك ثماني سنين وثمانية أشهر وفتح ثمانية فتوح‏:‏ بلاد بابك على يد الأفشين وفتح عمورية بنفسه والزط بعجيف وبحر البصرة وقلعة الأحراف وأعراب ديار ربيعة والشاري وفتح مصر وقتل ثمانية أعداء‏:‏ بابك ومازيار وباطس ورئيس الزنادقة والأفشين وعجيفًا وقارن وقائد الرافضة ‏.‏

وينبغي أن يكون ثامن بني عبد المطلب لأنه هو‏:‏ المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور بن وحكى أبو بكر الصولي‏:‏ أنه لم تجتمع الملوك بباب أحد قط اجتماعها بباب المعتصم ولا ظفر ملك كظفره أسر بابك ملك أذربيجان والمازيار ملك طبرستان وباطس ملك عمورية والأفشين ملك أشروسنة وعجيفًا - وهو ملك - وصار إلى بابه ملك فرغانة وملك اسيشاب وملك طخارستان وملك أصبهان وملك الصغد وملك كابل وباطيس ورئيس الزنادقة والأفشين وعجيفًا وقارن وقائد الرافضة ‏.‏

أخبرنا القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرنا أبو منصور بن باي بن جعفر الجيلي قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن محمد بن عمران قال‏:‏ حدثني محمد بن يحيى حدثنا محمد بن سعيد الأصم حدثنا إبراهيم بن محمد بن إسماعيل الهاشمي قال‏:‏ كان مع المعتصم غلام يتعلم معه في الكتاب فمات الغلام فقال له الرشيد‏:‏ يا محمد مات غلامك ‏.‏

قال‏:‏ نعم يا سيدي واستراح من الكتاب‏!‏ قال الرشيد‏:‏ وإن الكتاب ليبلغ منك هذا المبلغ دعوه إلى حيث انتهى لا تعلموه شيئًا وكان يكتب كتابًا ضعيفًا ويقرأ قراءة ضعيفة ‏.‏

 ذكر بيعته

لما احتضر المأمون ببلاد الروم كان معه ولده العباس وأخوه المعتصم فأراد الناس أن يبايعوا العباس فأتى وسلم الأمر إلى المعتصم وكان الجند قد شنعوا لأجله وطلبوا الخلافة له فبايع المعتصم وخرج إلى الجند فقال‏:‏ ما هذا الحب البارد‏!‏ قد بايعت لعمي وسلمت الخلافة إليه فسكن الجند وبايع الناس وقبل إبراهيم بن المهدي يد المعتصم وكان المعتصم قبل يده قبل ذلك ولا يعلم خليفة قبل يد خليفة ثم قبل الآخر يده غيرهما وكانت المبايعة يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة ثم خاف المعتصم من اختلاف الجند عليه فأسرع إلى بغداد فدخلها في مستهل رمضان ‏.‏

 ذكر طرف من أخباره وسيرته

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرني الحسن بن علي الصيمري أخبرنا محمد بن عمران بن موسى قال‏:‏ أخبرني علي بن هارون قال‏:‏ أخبرني عبيد الله بن أبي طاهر عن أبيه قال‏:‏ ذكر ابن أبي دؤاد المعتصم يومًا فأسهب في ذكره وأكثر من وصفه وأطنب في فضله وذكر من سعة أخلاقه وكرم أعراقه ولين جانبه وكرم جميل عشيرته قال‏:‏ وقال لي يومًا وقد كنا بعمورية‏:‏ ما تقول يا أبا عبد الله في البسر فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين نحن ببلاد الروم والبسر بالعراق قال‏:‏ وقد وجهت إلى مدينة السلام فجاءوني بكباستين وقد علمت أنك تشتهيه ثم قال‏:‏ يا إيتاخ هات إحدى الكباستين ‏.‏

فجاء بكباسة بسر فمد ذراعه وقبض عليها بيده وقال‏:‏ كل بحياتي عليك من يدي

فقلت‏:‏ جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين بل بعضها فآكل كما أريد ‏.‏

قال‏:‏ لا والله إلا من يدي ‏.‏

فوالله ما زال حاسرًا ذراعه ومادًا يده وأنا أجتني من العذق حتى رمى به خاليًا ما فيه بسرة ‏.‏

قال‏:‏ وكنت كثيرًا ما أزامله في سفره ذلك إلى أن قلت له يومًا‏:‏ يا أمير المؤمنين لو زاملك بعض مواليك وبطانتك واسترحت مني إليهم مرة ومنهم إلي أخرى فإن ذلك أنشط لقلبك وأطيب لنفسك وأرشد لراحتك قال‏:‏ فإن سيما الدمشقي يزاملني اليوم فمن يزاملك أنت قلت‏:‏ الحسن بن يونس ‏.‏

قال‏:‏ فأنت وذاك ‏.‏

قال‏:‏ فدعوت بالحسن فزاملني وتهيأ أن ركب بغلًا فاختار أن يكون منفردًا قال‏:‏ وجعل يسير بسير بعيري فإذا أراد أن يكلمني رفع رأسه وإذا أردت أن أكلمه خفضت رأسي فانتهينا إلى واد لم نعرف غور مائه وقد خلفنا العسكر وراءنا فقال لرحالي‏:‏ مكانك حتى أتقدم فأعرف غور الماء وأطلب قلته واتبع أنت مسيري ‏.‏

قال‏:‏ وتقدم رجل فدخل الوادي وجعل يطلب قلة الماء وتبعه المعتصم فمرة ينحرف عن يمينه وأخرى عن شماله وتارة يمضي لسننه ونتبع أثره حتى قطعنا الوادي ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر الخطيب قال‏:‏ أخبرني الصيمري قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عمران قال‏:‏ حدثنا علي بن عبد الله قال‏:‏ أخبرني الحسن بن علي العباسي عن علي بن الحسين الإسكافي قال‏:‏ قال لنا ابن أبي دؤاد‏:‏ كان المعتصم يخرج ساعده إلي ويقول‏:‏ يا أبا عبد الله عض ساعدي بأكثر قوتك ‏.‏

فأقول‏:‏ والله يا أمير المؤمنين ما تطيب نفسي بذلك ‏.‏

فيقول افعل فإنه لا يضرني ‏.‏

فأروم ذلك فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فضلًا عن الأسنان وانصرف يومًا من دار المأمون إلى داره وكان شارع الميدان منتظمًا بالخيم فيها الجند فمر المعتصم بامرأة تبكي وتقول‏:‏ ابني ابني وإذا بعض الجند قد أخذ ابنها فدعاه المعتصم وأمره أن يرد ابنها عليها فأبى فاستدناه فدنى منه فقبض عليه بيده فسمع صوت عظامه ثم أطلقه من يده فسقط وأمر بإخراج الصبي إلى أمه ‏.‏

وقد بلغنا أن امرأة مسلمة ببلاد الروم أسرت في حرب جرت بينهم وبين المسلمين فجعلت تنادي‏:‏ وامعتصماه ‏.‏

فلما بلغه ذلك قال على فوره‏:‏ لبيك لبيك وتقدم فركب من ساعته وهو يقول‏:‏ لبيك لبيك فلحقه الناس حتى دخل أرض الروم وأنقذ المرأة ونكأ في الروم ‏.‏

قال الفضل بن مران‏:‏ لم يكن في المعتصم أن يلتذ بتزيين البناء وكان غايته فيه إحكام ولم يكن بالنفقة في شيء أسمح منه بالنفقة في الحرب ‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ أمر المعتصم بهدم ما كان المأمون بناه بطوانة وحمل ما كان بها من السلاح والآلة وغير ذلك مما قدر على حمله وإحراق ما لم يقدر على حمله وأمر بصرف من كان المأمون أسكن ذلك من الناس إلى بلادهم ‏.‏

وفيها‏:‏ دخل جماعة من أهل همذان وأصبهان وماسبذان ومهرجان قذف في دين الخرمية وتجمعوا فعسكروا في عمل همذان فوجه المعتصم إليهم عسكرًا وكان آخر عسكر وجهه إليهم مع إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وعقد له على الجبال في شوال فشخص إليهم في ذي القعدة وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية وقتل في عمل همذان ستين ألفًا وهرب باقيهم إلى بلاد الروم ‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة‏:‏ صالح بن العباس بن محمد وضحى أهل مكة يوم الجمعة وأهل بغداد يوم السبت ‏.‏

 ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر

إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم أبو إسحاق المعروف بابن علية ‏.‏

كان أحد المتكلمين القائلين بخلق القرآن ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرنا عمرو بن إبراهيم ومحمد بن عبد الملك قالا‏:‏ أخبرنا عياش بن الحسن حدثنا الزعفراني قال‏:‏ أخبرني زكريا بن يحيى قال‏:‏ أخبرني شباب بن درست قال‏:‏ سمعت يعقوب بن سفيان الفارسي يقول‏:‏ خرج إبراهيم بن إسماعيل بن علية ليلة من مسجد مصر وقد صلى العتمة وهو في زقاق القناديل ومعه رجل فقال له الرجل‏:‏ إني قرأت البارحة سورة الأنعام فرأيت بعضها ينقض بعضًا ‏.‏

فقال له إبراهيم بن إسماعيل ما لم تر أكثر ‏.‏

توفي إبراهيم ببغداد ليلة عرفة من هذه السنة بمصر وهو ابن سبع وستين سنة ‏.‏

إبراهيم بن أبي زرعة وهب الله ابن راشد المؤذن يكنى أبا إسحاق كان إمام مسجد الجامع بالفسطاط توفي في هذه السنة ‏.‏

بشر بن آدم أبو عبد الله الضرير ‏.‏

ولد سنة خمسين ومائة سمع أبا عبد الله حماد بن سلمة وغيره روى عنه‏:‏ ابن راهويه والدوري والحربي ‏.‏

وقال أبو حاتم الرازي‏:‏ هو صدوق ‏.‏

وتوفي في ربيع الأول من هذه السنة ‏.‏

بشر بن غياث بن أبي كريمة أبو عبد الرحمن المعروف بالمريسي كان شيخًا فقيرًا فقيهًا دميم النظر وسخ الثياب يشبه اليهود كان يسكن في الدرب المعروف به ويسمى درب المريسي وهو بين نهر الدجاج ونهر البزازين سمع الفقه من أبي يوسف القاضي إلا أنه اشتغل بالكلام وجرد القول بخلق القرآن وقد روى من الحديث شيئًا يسيرًا عن حماد بن سلمة وسفيان بن عيينة وكان أبو زرعة الرازي يقول‏:‏ بشر بن غياث زنديق ‏.‏

وقال يزيد بن هارون‏:‏ هو كافر حلال الدم يقتل ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرنا حمد بن أحمد بن أبي طاهر أخبرنا أبو بكر النجاد حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال‏:‏ حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي قال‏:‏ حدثني محمد بن نوح قال‏:‏ سمعت هارون أمير المؤمنين يقول‏:‏ بلغني أن بشر المريسي يزعم أن القرآن مخلوق لله علي إن أظفرني به لأقتلنه قتلة ما قتلها أحد قط ‏.‏

أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب أخبرنا محمد بن نعيم الضبي قال‏:‏ سمعت أبا جعفر محمد بن صالح يقول‏:‏ سمعت أبا سليمان داود بن الحسين يقول‏:‏ سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول‏:‏ دخل حميد الطوسي على أمير المؤمنين وعنده بشر المريسي فقال حميد‏:‏ يا أمير المؤمنين هذا سيد الفقهاء هذا قد رفع عذاب القبر ومسألة منكر ونكير والميزان والصراط انظر هل يقدر أن يرفع الموت ثم نظر إلى بشر وقال‏:‏ لو رفعت الموت كنت سيد الفقهاء حقًا ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ أخبرني الحسن بن محمد الخلال قال‏:‏ حدثنا محمد بن العباس الخزاز قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن علي بن الحسين الأسدي حدثنا الفضل بن يوسف بن يعقوب بن القضباني حدثنا محمد بن يوسف العباسي قال‏:‏ وحدثني محمد بن علي بن ظبيان القاضي قال‏:‏ قال لي بشر المريسي‏:‏ القول في القرآن قول من خالفني أنه غير مخلوق ‏.‏

قلت‏:‏ فارجع عنه قال‏:‏ أرجع عنه وقد قلته منذ أربعين سنة ووضعت فيه الكتب واحتججت فيه بالحجج ‏.‏

أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن القزاز أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا محمد بن عبد الملك القرشي قال‏:‏ أخبرنا عباس بن الحسن البندار حدثنا محمد بن الحسين الزعفراني قال‏:‏ أخبرني زكريا بن يحيى حدثنا محمد بن إسماعيل قال‏:‏ سمعت الحسين بن علي الكرابيسي قال‏:‏ جاءت أم بشر المريسي إلى الشافعي رضي الله عنه فقالت‏:‏ يا أبا عبد الله أرى ابني يهابك ويحبك وإذا ذكرت عنده أجلك فلو نهيته عن هذا الرأي الذي هو فيه فقد عاداه الناس عليه ويتكلم في شيء يواليه الناس ويحبونه فقال لها الشافعي‏:‏ أفعل ‏.‏

فشهدت الشافعي وقد دخل عليه بشر فقال له الشافعي‏:‏ أخبرني عما تدعو إليه أكتاب ناطق أم فرض مفترض أم سنة قائمة أو وجوب عن السلف البحث فيه والسؤال عنه فقال بشر‏:‏ ليس فيه كتاب ناطق ولا فرض مفترض ولا سنة قائمة ولا وجوب عن السلف البحث فيه والسؤال عنه إلا أنه لا يسعنا خلافه ‏.‏

فقال الشافعي‏:‏ أقررت على نفسك بالخطأ فأين أنت عن الكلام في الفقه والأخبار أخبرنا القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرنا الحسن بن محمد الخلال حدثنا يوسف بن عمر القواس حدثنا أحمد بن عيسى بن السكين قال‏:‏ سمعت أبا يعقوب إسحاق بن إبراهيم يقول‏:‏ مررت في الطريق فإذا بشر المريسي والناس عليه مجتمعون فمر يهودي فأنا سمعته يقول‏:‏ لا يفسد عليكم كتابكم كما أفسد أبوه علينا التوراة يعني‏:‏ أن أباه يهوديًا ‏.‏

توفي بشر في ذي الحجة من هذه السنة ‏.‏

وقيل‏:‏ في سنة تسع عشرة وكان الصبيان يتعادون بين يدي الجنازة ويقولون‏:‏ من يكتب إلى مالك من يكتب إلى مالك أخبرنا القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت قال‏:‏ حدثنا القاضي أبو محمد بن الحسن بن الحسين بن رامين حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن محمد الجرجاني أخبرنا عمران بن موسى أخبرنا الحسن بن محمد بن الأزهر قال‏:‏ سمعت عثمان بن سعيد الرازي قال‏:‏ حدثنا الثقة من أصحابنا قال‏:‏ لما مات بشر المريسي لم يشهد جنازته من أهل العلم السنة أحد إلا عبيد الشونيزي فلما رجع من جنازة المريسي لاموه فقال‏:‏ أنظروني حتى أخبركم‏:‏ ما شهدت جنازة رجوت فيها من الأجر ما رجوت في هذه قمت في الصف فقلت‏:‏ اللهم إن عبدك هذا كان لا يؤمن برؤيتك في الآخرة اللهم فاحجبه عن النظر إلى وجهك يوم ينظر إليك المؤمنون اللهم عبدك هذا كان لا يؤمن بعذاب القبر اللهم فعذبه اليوم في قبره عذابًا لم تعذبه أحدًا من العالمين ‏.‏

اللهم عبدك هذا كان ينكر الميزان اللهم فخفف ميزانه يوم القيامة اللهم عبدك هذا كان ينكر الشفاعة اللهم ولا تشفع فيه أحدًا من خلقك يوم القيامة قال‏:‏ فسكتوا عنه وضحكوا ‏.‏

أخبرنا القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرنا علي بن محمد المعدل أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق حدثنا الحسن بن عمرو المروزي قال‏:‏ سمعت بشر بن الحارث يقول‏:‏ جاء موت هذا الذي يقال له المريسي وأنا في السوق فلولا أنه كان موضع شهرة لكان موضع شكر وسجود والحمد لله الذي أماته هكذا ‏.‏

أخبرنا القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ أخبرنا الحسين بن علي الطناجيري حدثنا محمد بن علي بن سويد حدثنا عثمان بن إسماعيل السكري قال‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ سمعت أحمد بن الدورقي يقول‏:‏ مات رجل من جيراننا شاب فرأيته في النوم وقد شاب فقلت له‏:‏ ما قصتك قال‏:‏ دفن بشر في مقبرتنا فزفرت جهنم زفرة شاب منها كل من في المقبرة وقد ذكرنا في أخبار زبيدة مثله ‏.‏

عبد الله أمير المؤمنين المأمون بن الرشيد ‏.‏

كان سبب مرضه أنه أكل رطبًا فحم وكان سبب وفاته وصار به مادة في حلقه وكانت كلما بلغت فتحت فبطت قبل أن تبلغ وقت تمامها فمات ‏.‏

كان في وصيته‏:‏ أنه لا إله إلا الله وإني مقر مذنب ثم انظروا ما كنت فيه من عز الخلافة هل أغنى ذلك شيئًا إذ جاء أمر الله لا والله ولكن أضعف علي به الحساب فيا ليت عبد الله بن هارون لم يكن بشرًا بل ليته لم يكن خلقًا‏!‏ يا أبا إسحاق ادن مني واتعظ بما ترى وخذ بسيرة أخيك في القرآن واعمل في الخلافة إذا طوقكها الله عمل المريد لله الخائف من عقابه ولا تغتر بالله وبمهلته فكان قد نزل بك الموت ولا تغفل عن أمر الرعية فلما اشتد الأمر به دعا أبا إسحاق فقال‏:‏ يا أبا إسحاق عليك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم لتعملن بحق الله في عباده ولتؤثرن طاعة الله على معصيته ‏.‏

قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فأقر عبد الله بن طاهر على عمله وإسحاق بن إبراهيم فأشركه في ذلك فإنه أهل له وأهل بيتك فالطف بهم وبنو عملك من ولد علي بن أبي طالب فأحسن صحبتهم ولا تغفل عن صلتهم ‏.‏

وتوفي في يوم الخميس وقت الظهر على نهر البدندون لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب بعد العصر من هذه السنة ‏.‏

فلما توفي صلى عليه أبو إسحاق المعتصم وحمله ابنه العباس وأخوه محمد بن الرشيد إلى طرسوس فدفناه في دار كانت لخاقان خادم الرشيد وكان عمره سبعًا وأربعين سنة وقيل‏:‏ ثمان وأربعين سنة وكانت خلافته عشري سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يومًا وكان له ثمان عشر ذكرًا وتسع بنات ‏.‏

واستأذنت المعتصم حظية كانت للمأمون اسمها تزيف أن تزور قبره فأذن لها فضربت فسطاطًا وجعلت تبكي وتنوح بشعر لها وهو‏:‏ يا ملكًا لست بناسيه نعى إلي العيش ناعيه والله ما كنت أري أنني أقوم في الباكين أبكيه والله لو يقبل فيه الفداء لكنت بالمهجة أفديه عاذلتي في جزعي أقصري قد علق الدهر بما فيه فما بقي أحد في العسكر إلا بكى ‏.‏

عبد الملك بن هشام بن أيوب أبو محمد الذهلي البصري النحوي يروي مغازي ابن إسحاق عن زياد بن عبد الله البكائي عنه وكان ثقة ‏.‏

توفي بمصر في ربيع الآخر من هذه السنة ‏.‏

ولد سنة أربعين ومائة وسمع مالك بن أنس وغيره وكان ثقة عالمًا بالمغازي وأيام الناس حمله المأمون إلى بغداد أيام المحنة ‏.‏

قال أبو داود السجستاني‏:‏ رحم الله أبا مسهر لقد كان من الإسلام بمكان حمل على المحنة وحمل على السيف فمد رأسه وجرد السيف فأبى أن يجيب فلما رأوا ذلك حمله إلى السجن وسمعت أحمد بن حنبل يقول‏:‏ رحم الله أبا مسهر لقد كان من الإسلام بمكان ما كان أثبته ‏.‏

أخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي قال‏:‏ حدثني الأزهري حدثنا محمد بن العباس أخبرنا أحمد بن معروف الخشاب أخبرنا الحسين بن الفهم حدثنا محمد بن سعد قال‏:‏ شخص أبو مسهر من دمشق إلى عبد الله بن هارون وهو بالرقة فسأله عن القرآن فقال‏:‏ كلام الله وأبى أن يقول مخلوق فدعى له بالسيف والنطع ليضرب عنقه فلما رأى ذلك قال‏:‏ مخلوق فتركه من القتل وقال‏:‏ أما إنك لو قلت ذلك قبل أن أدعو لك بالسيف لقبلت منك ورددتك إلى بلادك وأهلك ولكنك تخرج الآن فتقول‏:‏ قلت ذلك فرقًا من القتل أشخصوه إلى بغداد فاحبسوه بها حتى يموت ‏.‏

فأشخص من الرقة إلى بغداد في شهر ربيع الآخر من سنة ثمان عشرة ومائتين فحبس فلم يثبت إلا يسيرًا حتى مات في غرة رجب سنة ثماني عشرة ‏.‏

علي الجرجرائي ‏.‏

كان ينزل جبل لبنان ‏.‏

أخبرنا محمد بن أبي القاسم قال‏:‏ أخبرنا رزق الله بن عبد الوهاب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال‏:‏ سمعت عبد الواحد بن علي يقول سمعت القاسم بن القاسم يقول‏:‏ بلغني أن بشرًا الحافي يقول‏:‏ لقيت عليًا الجرجرائي بجبل لبنان على عين ماء قال‏:‏ فلما أبصرني قال‏:‏ بذنب مني لقيت اليوم إنسيًا فعدوت خلفه وقلت‏:‏ أوصني فالتفت إلي وقال‏:‏ أمستوص أنت عانق الفقر وعاشر الصبر وعاد الهوى وعاف الشهوات واجعل بيتك أخلى من لحدك يوم تنقل إليه على هذا طاب المسير إلى الله عز وجل محمد بن أبي الخصيب الأنطاكي سمع مالك بن أنس وابن لهيعة وغيرهما ‏.‏

روى عنه‏:‏ عباس الدوري وإبراهيم الحربي وغيرهما وكان ثقة ‏.‏

وتوفي في بغداد في هذه السنة ‏.‏

محمد بن نوح بن ميمون بن عبد الحميد العجلي كن أحد المشتهرين بالسنة والدين والثقة وكان المأمون قد كتب وهو بالرقة إلى إسحاق بن إبراهيم صاحب الشرطة أن يحمل أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح إليه بسبب المحنة فأخرجا من فأخبرنا عبد الرحمن بن محمد قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت أخبرنا ابن رزق أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق حدثنا حنبل بن إسحاق قال‏:‏ سمعت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - يقول‏:‏ ما رأيت أحدًا على حداثة سنه وقلة علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح وإني لأرجو أن يكون الله قد ختم له بخير قال لي ذات يوم وأنا معه جلوس‏:‏ يا أبا عبد الله لست مثلي أنت رجل يقتدى بك وقد مد هذا الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك فاتق الله واثبت لأمر الله ونحو هذا فانظر هذا الكلام فعجبت منه من موعظته لي وتقويته إياي فصار في بعض الطريق فمات فصليت عليه ودفنته أظنه قال‏:‏ بعانة فانظر بماذا ختم له معاوية بن عبد الله بن أبي يحيى الأسواني أبو سفيان مولى بني أمية روى عن مالك والليث وابن لهيعة وكان ثقة وكانت القضاة تقبله توفي في هذه السنة ‏.‏